‏إظهار الرسائل ذات التسميات فكر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فكر. إظهار كافة الرسائل

ذلك الشخص...


يعيش بيننا جميعا ذلك الشخص الذي لم يخرج من دائرته الضيقة، بإرادته أو عن غير إرادته... ذلك الشخص الذي لم يتذوق غير طعام أمّه وجيرانه وأصدقائه... ذلك الشخص الذي لم يذهب قطّ خارج الحدود التي يعرفها، قد تكون حدود حيّه بلدته أو بلده... ذلك الشخص الذي لم يطالع لغير من يعرف، فقرأ لأصدقائه على صفحات الفايسبوك، وربما طالع بعضا من آيات القرآن وبعضا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ممّا تلاه عليه أستاذه في مدرسة الحي، أمّا إن كسر القاعدة وقرأ لبعض الكتّاب الذين يلتقي أحيانا بأسمائهم في كتاب اللغة العربية أصبح ذلك المثقّف الذي يعرف كل شيء بين أصحابه...

إنّه ذلك الشخص الذي قيل له أنّ الفلسفة حرام، وأن المطالعة للملحدين فيها خطر على عقيدته، والمطالعة للمخالفين أخطر من ذلك كله لأنّها قد تؤدّي به إلى الانحراف فيؤدّي صلواته كلّها في الوقت، أو قد يلج إلى المنزل برجله اليسرى والعياذ بالله...

إنّه ذلك الشخص الذي يؤمن بأن أسلافه قد وجدوا حلولا لكل شيء فلا داعي للابتداع، فكل بدعة ضلالة... وكل شيء إلا وقد ورد ذكره في القرآن المعجز، فأعجز عقله عن التفكير والبحث، ومهما وصل الانسان إلى درجة من الاكتشاف إلا وجد له عبارة وردت قبل 14 قرنًا، لكنه عجز أن يسقطها على الواقع لأن القرآن معجز...

ذلك الشخص الذي يرى بأنّ أساتذته ومشائخه لا يمكن أن يكونوا على خطأ ما داموا على نفس الطريق الذي هم وجدوا عليه آباءهم، أولئك العباقرة الذين استطاعوا التغلّب على أينشتاين وتِسلا ونيوتن وغيرهم من الفلاسفة الدجّالين، فقط استطاعوا أن يشيّدوا حضارةً ويبنوا قصورًا والله سيعجز عن القيام بها أولئك...

إنّه ذلك الشخص الذي يرى بأن النظام الذي وضعه أجداده هو النظام المثالي والصحيح، وكيف لا يكون كذلك وقد استقاه من القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يزال مستمرًّا قائما لقرابة 100 سنة، فلا داعي لتغييره أو تحويره، وأي محاولة لذلك هي إيذان بحرب من الله ورسوله... ورغم أنه يرى بأن الواقع ليس بتلك المثالية إلّا أنه يؤمن بأن الخلل موجود في الشعب وليس في النظام، وعلى كل حال سيعيش أيامه المتبقية القليلة ويذهب إلى الجنة، والباقي؟ ليذهب إلى الجحيم...

كيف لا يذهب إلى الجنة وقد حفظ كل كلام قاله أساتذته، وطبّق كل ما كانوا يقومون به أيضًا... كيف لا والناس يدعونه إلى ولائمهم، أفراحهم وأقراحهم، يتبرّكون به... كيف لا والناس من حوله يسفِّقون له ويقدّمونه إمامًا عليهم... كيف لا وتلاميذه يرون بأنه عالِم معصوم يصدّقون كل ما يقول، حتى وأنهم التزموا بعدم المطالعة للمخالفين والملحدين والفلاسفة المشعودين، والتزموا بعدم محاورتهم والنقاش معهم أيضًا، وإن حاول غيرهم أن يفعل ذلك معهم قالوا له "سلامًا" تأسّيًا بالذين تحدث عنهم القرآن فقال "وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامً"...

خد جزءا من عقلك خارج جسمك


يقوم عقلنا بترتيب الأمور بطريقة استطاع من خلالها أن ينفعنا على نحو جيد عبر العصور، لكن ونحن الآن في عصر البيانات الضخمة (Big Data)، والكم الهائل من المعلومات التي نواجهها يوميا، دون الحديث عن الكم الهائل من القرارات التي علينا أن نتخذها كل لحظة، نحتاج إلى وسائل خارج عقلنا لمساعدتنا. 
هذه الجرعات الزائدة من المعلومات التي نتلقاها يوميا من الإذاعة والتلفاز والجرائد ووسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية... كلها تشكل ضغطا على الدماغ حتى أصبح يخذلنا في تذكر ابسط الأمور. فننسى أين وضعنا مفاتيح المنزل، وننسى القيام ببعض الأمور لأننا نتذكرها في كل مرة نكون مشغولين فيها بالقيام بأمر آخر... فلو نستطيع مثلا الذهاب إلى السوق وشراء ما نحتاجه دون بذل الجهد في تذكر قائمة الحاجيات أو مكان تواجدها سيسمح لنا باستغلال ذلك الوقت أو تلك الطاقة في التفكير في أمور أخرى أكثر أهمية. 
في الحقيقة هناك أمور عديدة نستعملها كإضافات لعقلنا من أجل تخفيف الضغط عنه، لنذكر على سبيل المثال قائمة جهات الاتصال في هواتفنا النقالة، كم خففت على عقولنا من أرقام هواتف عليه أن يحفظها ويستذكرها، فقد قمنا بتفويض هذه المهمة إلى هاتفنا المحمول، وفي كل مرة نحتاج أن نتصل بشخص يكفي أن نكتب اسمه ونضغط على اتصل... 
كتابة الأمور وتسجيلها يخفف على العقل الجهد الذي يبذله في محاولة تذكرها وإبقائها في ذاكرتنا خشية نسيانها، فعدد المهام التي يجب علينا القيام بها ليس بالعدد الصغير، وإذا حاولنا أن نبقيها جميعها في ذاكرتنا قد تضيع بعضها فننساها، أو قد نخطأ في تقديم وتأخير بعضها حسب الأولوية، لأنه لا يمكن أن نستحضرها جميعا في لحظة واحدة لأخذ قرار القيام بمهمة معينة نظرا لأولويتها، بينما هناك ما هو أكثر أهمية... هذا مقارنة مع استعمال طريقة البطاقات مثلا لتسجيل مهامنا، فنستطيع بسهولة أن نرى كل ما ينتظرنا، وأن نصنفها حسب الأولية، فنضع كل البطاقات ذات الأولوية "أ" مع بعضها، وذات الأولوية "ب" لوحدها وهكذا... وكل ما تأتي مهمة جديدة نسجلها ونضعها في مكانها المناسب، أو أحيانا نقوم بمراجعتها ونعيد الترتيب، وهكذا كلما ننتهي من مهمة معينة نعود مباشرة إلى بطاقاتنا لتخبرنا بما علينا القيام به لاحقا، دون أخذ عناء التفكير حول الأمر.
 فهناك العديد من الوسائل التي من نستطيع من خلالها أن نخفف الحمل على عقولنا، ونقتصد في طاقته لاستعمالها فيما هو أكثر أهمية، فكم تستعمل من هذه الإضافات، وما هو قدر الجهد الذي يمكننها أن تخففه على عقلك؟


ترجمة مختصرة لـ: Getting Part of Your Mind Outside Your Body
من كتاب: The Organized Mind: Thinking Straight in the Age of Information Overload

رسالة إلى فتاة... بمناسبة نهاية السنة


   اليوم هو آخر يوم من سنة 2016م، إلا أن هذا لا يعدو كونه رقما بالنسبة لنا كنا مسلمين، فلتتخذيه محطة تتوقفين عندها هنيهة، ولتسألي نفسك: ما الذي قمت بتحقيقه خلالها، هل كانت سنة عادية وكنت شخصا عاديا فيها، أم تركت بصمة حقّقت شيئا خلالها، ولو من خلال فكرة نافعة، موقف صغير مؤثر، أو كلمة بسيطة عميقة... فلا يجب أن تستصغري أي عمل تقومين به مادمت مخلصة في جهدك، فكما قال الرسول الأكرم: "إنما الأعمال بالنّيات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوىفإذا كانت النية صادقة مخلَصة فإن الله تعالى سيوفقك لتحقيق ما تصبين إليه لا محالة. حاولي أن تتوقفي لحظة وتحصري كل ما قمت به ولو كان بسيطا، ثم ضعي لنفسك هدفا أن تكون هذه القائمة أطول وأكثر أهمية السنة المقبلة، ولا تستصعبي الأمر على نفسك فأنت تستطيعين التفوق والتميز والنجاح.

   كوني متيقنة أنك أحد أعمدة المجتمع والأمة الإسلامية، نجاحها يتوقف على نجاحك، رقيّها مبني على رقيّ فكرك ووعيك، وارتفاعها عاليا لا يكون إلا بارتفاع وعلو هِمَّتك وطموحك، وعلى العكس انحطاطها هو نتيجة حتمية لانحطاط الفتاة والمرأة بالتبع.
اعلمي أن جميع أعداء مجتمعنا وأمتنا الاسلامية يكيدون لك ويستهدفونك ليكيدوا بك وينخروا المجتمع من الداخل، فإنهم يبثون السم من خلال جميع قنوات التواصل المتاحة؛ من الأفلام والمسلسلات، والفضائيات عموما وكذا الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعية، وصولا إلى الكتب والمجلات والجرائد، وغيرها... يعملون على تسميم أفكارك حتى تصبحي كالدودة التي تأكل قلب الفاكهة فلا يظهر الضرر إلا وقد أتت على كلها فلا يصلح منها شيء إلا للمزبلة.

   اعلمي أنّ أمامك مسؤولية عظيمة، فأنت تحملين مصير الأمة على كتفيك، ولن تكوني قادرة على حمل هذه المسؤولية إلا عن طريق العلم، طبعا بعد أن تضعي قدميك على قاعدة صلبة متينة من المبادئ والأخلاق، وتستنيري بالعفة والطهارة، وتتزودي بالطاعة؛ طاعة الله تعالى، وطاعة الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ثم طاعة الوالدين اللذين في رضاهما رضا الله عز وجل.

   انهلي من العلم ولا تتواني عن فعل ذلك، لا تفشلي ولا تستسلمي، لأن العلم نور يجعلك تبصرين وسط الظلام، فالأعمى يصف له الناس ما حوله فيصدقهم لأنه بكل بساطة لا يبصر، كذلك الجاهل يصدق كل ما يُقال له لأنه لا يعلم. تسلّحي بالعلم وواجهي كل ما يقف في طريقك، بل حاربيه بسلاح العلم نفسه.

   تذكري في النهاية أن أمل الأمة فيك معلق، وأنتِ عنها مسؤولة، فهل أنتِ مستعدة لتحمل هذه المسؤولية، وتعدِّين لها العُدَّة اللازمة؟

نور أضاء بصيرتي


نـُورٌ أَضاءَ بَصِيَرتي فَأضـاءَني   لمَّـا تَـذَكْرَتُ الحَبيـبَ مُحَمَّـدَا
وكَأنَّما سَطَعَتْ شُمُوسٌ في دَمـِي   وكأنَّمــا قَمَرُ السَـمَاءِ تَعـَـدَّدا
فَبِـذِكْرهِ يحلـو الوجُـودُ فَنرتَقي   يا حظَّ مَنْ باسمِ الحَبيـبِ تَـزوَّدا

   فعلا بذكره يحلوا الوجود، ولكن لن نرتقيَ إلا باتباعه، فهذا النور الذي أضاء بصيرتي جعلني أتساءل يوم الاحتفال بذكرى مولده صلى الله عليه وآله:
   هل نهتمُّ بالمُحتفى به أم بالاحتفال؟.. هل نقدس المذكور أم الذكرى؟... ألسنا نخدع أنفسنا حين نحتفل بذكرى مولد النبي، ونزعم أننا نغتنم هذه الفرصة حتى نُذكّر أنفسنا بسيرته، ثم ننساه إلى يوم الذكرى من العام المقبل، فأرى أننا بعيدون كل البعد عن سنته عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وذكره لا يكاد يَرِد على ألسنتنا في سائر الأيام.…
   كيف يمكننا أن نحتفل به يوما، ونخون احتفالنا هذا كل يوم؟... ألسنا نضحك على أنفسنا عندما نَلبس أجمل الثياب، وأمامنا من يرتجف من البرد لا يملك ما يلبس؟.
   بربكم أخبروني كيف نقيم أشهى وألذ وأكبر الولائم، وجيراننا لا يملكون لقمة العيش احتفالا بمن وصى بالجار؟..
   إن الاحتفال والفرحة تكمن في شمعة نوقدها في قلوبنا أو قلوب... وليست في شمعة نوقدها في ذكرى ميلاد المصطفى... حبيبنا الذي أضاءت سُنَّته ملايير الشموع في القلوب ولازالت تضيء...
   إن الاحتفال يكمن في كسوة فقير، وسد جوعه... لا في التنافس حول أجمل الثياب أو أكبر الولائم...
   إن السرور يكمن في تأمين مشرد من قسوة الطبيعة خاصة ونحن في فصل الشتاء... لا في ترويع مؤمن وحرق أموال في مفرقعات وقنابل وحروب في الشوارع... احتفالا بمن قال "من روّع مسلما روّعه الله يوم القيامة"...
   كيف لا وهو من قال "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، أفتُرانا نحتفل به ونحن نفتقر إلى أبسط الأخلاق؟
   لما لا نحتفل مثلما كان يصوم هو كل يوم إثنين لأنه يوم مولده؟ لما لا نحتفل به بذكره كل يوم؟ بالتعلم من سنته والاقتداء بها؟ فهو الذي في ليلة ولادته عليه الصلاة والسلام ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وجف ماء بحيرة ساوى، ومن الآيات التي ظهرت بمولده صلى الله عليه وسلم، أن إبليس اللعين حُجب عن خبر السماء، وصاح ورنّ رنّةً عظيمة كما رنّ حين لُعن وحين أُخرج من الجنة، وحين وُلد النبي، وحين نَزلت الفاتحة، وسُمِعَ من أجواف الأصنام ومن أصوات الهوَاتف بالبشارة بظهور الحق في وقت الزوال.
   اخوة الإيمان، قد يحتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها اليوم شكرًا لله تعالى على بروز سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم لهذه الدنيا، فكان ضياءًا شعَّ على الأرض فأخرج أهلها من أحلك الظلمات إلى النور، كان هدًا أنقذ الناس من الظلال، كان قرآنًا يمشي على رجلين حتى نتأسى به ونتبع سنّته.
   أتوقف هنا وأقول: يا رسول الله...
أنا ما أَتيتُكَ يا حَبيبـي مَادحــاً    يَكفِيـكَ مَدْحُ اللهِ والتَمجِـيـــدُ
فَصِفَاتُ خَلْقِكَ في الكِتَابِ كَثيـرَةٌ    لَيسـتْ لهـا حَدٌ .. ولا تَحديـــدُ
أنا هَائمٌ في نُورِ حُبِّـكَ ذَائِـبٌ     فَأَظـلُّ أَبكـى... والغَرَامُ يَزِيـــدُ
   وأختم بهذه الأبيات : 
الله أكبرُ والزمان ُ المظلمُ قد غابَ مذ جاءَ النبيُّ الأكرمُ
قوموا له وعلى يديهِ تعلموا سُبُلَ السلام ِ ونوِّروا أنحاها
ما نحنُ لولا أنت إلا داءُ    ولأنتَ يا شرفَ الوجودِ دواءُ
    دعونا نعد إلى سيرة النبي، ففيها الدواء والنور، ولنجعل احتفالنا هذا لله شكرًا، ولنتمم شكرنا بالعمل. 
   اللهَ تعالى أسأل أن يعيد علينا هذه المناسبة العظيمة بالأمن والأمان والبركة والخير العميم، لنسأل أنفسنا كيف كان الشكر والعمل.

بين عالمين…


بين عالمين… فكرة دائمًا ما تراودني، ويزداد تعلُّقي بها كلَّ يومٍ وبعد كلِّ تجربة، فكرة أن الإنسان يعيش في عالمين اثنين، أمَّا الأول فهو في دائرته الخاصة القريبة منه، أما الثانية فعالم حدوده تتسع وتبتعد كلما حاولنا الوصول إليها.

في الدائرة الخاصة نجد ما هو متعلق بالشخص ذاته، محيطه الأسري والمهني والاجتماعي… أهدافه أحلامه وآماله الشخصية… الأشياء المحيطة به، المعلومات التي اكتسبها والمهارات التي أتقنها… ببساطة كل ما يتعامله معه أو به أو من خلاله في حياته اليومية.

خارج حدود هذه الدائرة الخاصة نجد الكثير الكثير مما يستحيل ذكره كلَّه، لكن أكتفي بالإشارة إلى بعض الأمور التي قد تساعد في إيضاح الفكرة، فخارج هذه الحدود نجد الأمة والإنسانية جمعاء، لا، بل نجد كل العالم بما يحويه من نبات حيوان أو جماد، ولكل هؤلاء نجد أحلامًا وآمالاً، نجد آلامًا وأحزانًا… نجد من العلم ما لم نستطع التعرف عليه حتى، نجد من المهارات ما لا يمكننا تجبرتها ناهيك عن التمكن منها جميعًا… نجد من العادات والثقافات ما لم يتمكن خيالنا يوما رسمه لنا… والكثير الكثير…

كلّما حاول الواحد منّا الخروج من تلك الدائرة، اكتشف ضيقها وصغر حجمها ومحدوديتها، اكتشف أنّ جميع مشاكله لا تساوي شيئا أمام المشاكل التي تواجه الجميع خارجها، اكتشف أنّ أحزانه وآلامه ما هي إلا قطرة من محيط لا قعر ولا ساحل له مقارنة بما هو خارج تلك الدائرة…

كلّما حاول الإنسان الخروج من دائرة معارفه، اكتشف مدى جهله وأيقن أنّ لحظات الغرور التي تأخذه أحيانًا بسبب جدال فاز فيه، أو سؤال أجاب عليه، أكبر خطيءة قد يرتكبها، كلما خرج من تلك الدائرة ازداد إيمانه أن تلك الدائرة التي كان يغرق فيها أحيانًا ما هي إلا نقطة متناهية الصغر في فضاء متناهي الكبر، تماما مثلما نرى حجم الكرة الأرضية من الداخل أو من الخارج، فرق كبير يا عم.

إذا تزاوجت اللا نهايتان (لا نهاية صغر حجم الدائرة التي يعيش فيها الإنسان، ولا نهاية كبر ما خارجها) داخل عقل أي شخص، ولدت حكمة لا متناهية مضاعفة…

لكن متى يمكن لـ "اللا نهايتين" أن تتزاوجا؟ بل هل هذا ممكن؟
نورالدين الواهج

ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم ...

"اﻹبتهال إلى الله"
للفنان محمود فرشجيان
دعوة وأمر صريحين من الله تعالى بالتوجه إليه بالدعاء، بل ووعد بالاستجابة في قوله "اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم" فنحن الفقراء في كل شيء، نحن المحتاجون إلى قوة تعيننا على خوض هذه الحياة، لكن هل نتوجه إلى الله بالدعاء؟ هل نطلب حاجاتنا من القوي الذي لا تزيده كثرة العطاء إلا جودًا وكرمًا؟ إن الله هو الغني الملطلق الذي له ملك السماوات والأرض، الذي بيده ملكوت كل شيء، "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَاﻻَرْضِ"(البقرة 107)، الذي أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، إنّه مَن لا ينفَدُ ما عنده بالبذل والعطاء، "إِنَّ هَذَا رِزْقُنَا مَالَهُ مِنْ نَفَاد"(ص53)، إنّه الذي لا يَعرف البخلُ والشحُ مكانًا في ساحته وحضرته سبحانه، فلا يضيق ملكه بعطاء، ولا ينقص شيء منه إذا جاد به على مَن يُحب، فليس من سبب إذن أن يرد سائلا من عباده إذا التجأ إليه في أمر يهمُّه صغيرًا كان أم كبيرًا وهو تعالى الذي يقول: "اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم"، إلاّ إن كانت اﻹجابة في غير صالح أو صلاح السَّائل، وهو العالم بكل شيء، فيعلم ما يَصلُح لعبده وما يضره، وما يُصلِحه وما يُفسِده، أمّا السائل فإنه جاهل لا علم له أمام علمه اللا متناهي جلَّ وعلا.
"وَالله غَنِيٌّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاء"(محمد 38) نحن الفقراء إلى الله نحتاجه في جميع حركة نقوم بها وجميع حالة سكون نكون فيها، نحن الضعفاء لا نملك من أمرنا شيئًا، وكلّما زاد وعينا بهذا الفقر والضعف كلما كنّا إلى الله أقرب بالدعاء والالتجاء إليه، وكلّما كنّا أقرب إلى رحمة الله تعالى، أمّا إن غفلنا عن هذا أو استكبرنا ولم نستشعره ابتعدنا عن رحمة الله… 
من الجميل أن يلتجئ الإنسان إلى ربه في كل حاجاته صغيرها وكبيرها، إنِّه يعلن بذلك عبوديته الكاملة لله، قوةَ الله اللامتناهية، ملكَ الله غير المحدود، عطاءَه غير المحظور... وليس في أي طلب يتوجه به العبد إلى ربه ما يعجزه أو ينقص من ملكه شيئا، بل إنه تعالى يحب أن يكون عبده على صلة دائمة به يعود إليه في كل حاجاته، يستخيره في كل خياراته، يطلب عونه وتوفيقه في كل أعماله، فتكون يده ممدودة إلى بارئها، ويكون على صلة بالله في السرَّاء والضرَّاء. أمّا أقصى درجات الطلب فهي تلك التي تكون عند الاضطرار، "أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ" (النمل 61) والاضطرار هنا يعني بأن لا يجد الإنسان أي حل سوى الالتجاء إلى الله تعالى فيفقد كل خياراته ويستنفدها، لا مخلوق على وجه اﻷرض يستطيع أن يعينه، يجد نفسه وقد أُغلقتْ أمامه كل اﻷبواب ما عدا بابه عز وجل فإنه مفتوح دائما وأبدا، حينها يكون الأمر بيده وحده سبحانه، يعطيه أو يمنعه، يدفعه أو يرده، يعينه أو يدعه… لكن الدعاء لا يغني عن السعي والعمل واتخاذ الأسباب.
كما نعلم جميعًا أن الغاية من الخلق هي العبادة، و"الدعاء مخ العباة" كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ونرى أنّ في اﻵية الكريمة " اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين" (المومنون 60) بعد الدعوة صريحة إلى الدعاء والعهد بالإجابة -سواء عاجلة أم آجلة-، أتى ذكر المستكبرين عن عبادته أي دعائه -كما فسر ابن كثير هذه اﻵية الكريمة- سوف ينالهم غضب من الله وعذاب شديد، وسيدخلون جهنم صاغرين أذِلّاء، وهذا موافق لقوله صلى الله عليه وسلم "من لم يدع الله ، عز وجل ، غضب عليه" ففي الدعاء إقبال العبد على الله، واﻹقبال على الله هو روح العبادة ولبُّها، وقيمة العبادة تتجلّى في أنها تشد العابد إلى المعبود وتربطه به، ومن دون هذا ما صارت العبادة عبادةً، لأن فيها  إقبال وحركة إلى الله، قصد لوجهه وابتغاء لمرضاته، واﻷهم من ذلك إعلان للعبودية والحاجة، وكل هذا يحققه الدعاء.
إنَّ الدعاء من أسباب اهتمام الله بعبده فقد قال تعالى "قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُم" (الفرقان 77)  -كما جاء في تفسير ابن كثير- أي لولا اِلتجاؤنا إليه تعالى بالدعاء ما كان ليَعْبَأَ أو ليهتمَّ بأمورنا، وإذا اهتم إنسانٌ بأخيه اﻹنسان أحاطه بالرعاية، والجود والعطاء، أجاب كل حاجاته وطلباته… كما نلاحظ هذا أيضا في اهتمام الوالدين بأبنائهما ومعاملتهما لهم. ما هذا إلّا اهتمام العبد بأخيه، فكيف باهتمام الله تعالى وهو الكامل، الذي بيده الخير كله، والخلق واﻷمر جميعا، هذا وقد أحاطنا بنعم لا حصر لها دون أن نسألها، وهو من أسمائه الوهَّاب، الرزَّاق، المُجيب، الواسع، الوَدود، الغني، المُغني، الكريم… 
لو نعي هذا جيدًا لكان ذِكرنا كله دعاءً وعودةً إلى الله تعالى، لسألناه حتى في فتح الباب وملح الطعام، بل وإن وعينا ما في ترك الدعام من سخط الله تعالى لما توقفنا عنه فقد قال علي كرّم الله وجهه "الحمد لله الذي مرضاته في الطلب إليه، واِلتماس ما لديه، وسخطه في ترك الإلحاح في المسألة عليه". هل نستشعر ونستحضر كل هذا الفضل والخير ونستغله؟ أم نحن نحرم أنفسنا من هذا السلاح المعين؟ فقد قال خير الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين".
نورالدين الواهج